حياكم الله.. حفلة الزواج في "برحة" الحي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حياكم الله.. حفلة الزواج في "برحة" الحي, اليوم الثلاثاء 3 يونيو 2025 08:30 مساءً

من الواضح أن المدنية طمست الكثير مما كان في السابق، وأدت إلى تغيرات كبيرة في مجتمعاتنا، بعض هذه التغيرات جزء من ثقافتنا، مثل ثقافة إقامة مناسبات الزواج في "برحة" الحي والنساء في المنزل وعلى السطوح لمحدودية مساحات المنازل آنذاك، وعلى بساطة الوضع كانت الفرحة لا تسع الجميع، والتعاون والفزعة سيدا الموقف وجملة "ويش تبون احنا حاضرين وفي الخدمة" يرددها الجميع، والكل جاهز وخاصة من شباب الحي، وكانت وليمة العشاء تطبخ في الموقع "في زاوية البرحة" ليتناول الجميع وجبة العشاء مبكرا وتبدأ بعدها الرقصات الشعبية (العرضة) والأهازيج والشعر، التي تملأ المكان والأفق والقلوب، ما أجمل ذيك الأيام «الله يا وقت مضى.. لو هو بيدينا ما يروح»، وفي المقابل يشاهد الناس في تطبيقات التواصل الاجتماعي السنوات الأخيرة مقاطع منتشرة لمظاهر تفوق الوصف لحفلات زواجات الأغنياء والأثرياء ذات الطابع الأرستقراطي الباذخ الذي يفوق الوصف، ومستوى رفيع من الفخامة والأناقة والذوق الإمبراطوري المختلط بين الشرق والغرب، لتبدأ قصة الزواج وكأنهم ملائكة يرتبطون في عالم البشر في ليلة لا تشبهها ليلة، وكأن القمر وُلد مرتين؛ مرة في السماء، ومرة على المسرح الزجاجي المعلق وسط القاعة، حيث دخل العروسان كأنهما من نسل السماء، لا البشر، الجدران تلمع كأنها مطلية بالنجوم، والثريات تتدلّى مثل شلالات ضوء من السماء السابعة، المدعوون؟ أسماء لامعة، مشاهير لتغطية الحدث، ومؤثرون، أثرياء ووجهاء المجتمع من الطبقات والمناصب الرفيعة، ليستمر الخيال والموسيقى؟ عزف أوركسترا حية، واستعراض أسطوري وألعاب نارية تنفجر داخل القاعة دون أن تحرق شيئا سوى عقول الحاضرين وقلوب المشاهدين عبر المقاطع المسربة في مواقع التواصل الاجتماعي.

أعتقد أن هذه المظاهر لا تدعم فكرة الزواج، وارتفاع تكاليفه كأحد أهم الأسباب في تأخر الزواج، كما تسهم هذه المظاهر في خلق فجوة طبقية، يشعر فيها أصحاب الإمكانيات المحدودة بالدونية أو الحرج من إقامة حفلات بسيطة، رغم أن الزواج الحقيقي يقوم على المشاركة والتفاهم، لا على الكماليات، والتي تصل أحيانا إلى مبالغ خيالية، يشكل ضغطا نفسيا وماديا على العروسين وعائلاتهم، كثيرون يُجبرون على الاستدانة أو التضحية بأشياء أهم، فقط من أجل ليلة تُبهر الآخرين، والأخطر من ذلك، أن هذا النمط يُكرّس مفاهيم اجتماعية خاطئة، كربط قيمة الزواج بالمظاهر، لا بالمضمون، في حين غاب السؤال الأهم: هل هذا الزواج سيبنى على أسس صحيّة ومستقرة؟

نتحدث اليوم ونحن على مشارف مشكلة عزوف الشباب والفتيات عن الزواج أو تأخير اتخاذ قراره، لذلك أرى أنه علينا أن نكرس ثقافة الأسرة والمؤسسة الزوجية، وأن تبنى على ثقافة الاحترام والحوار والاتفاقات وكل نموذج أو علاقة هي فريدة بحد ذاتها، وعلينا أن نلغي جملة (شوف الناس ويش تسوي ونسوي زيهم) ونستبدلها بالتفاهم، والاحترام المتبادل، والحوار الهادئ، والمرونة، لا علاقة لهذه المبادئ بالمبلغ الذي صُرف على الحفل أو مستوى الفخامة فيه، في حين يُوجّه اهتمام العروسين والعائلتين نحو الشكل لا المضمون، الذي يفقد الزواج توازنه من بدايته، كثير من الزيجات تبدأ بديون، أو توتر نفسي نتيجة الضغوط الاجتماعية للمواكبة والتفاخر، وهذا يُنذر بزواج هشّ من أول يوم.

يؤكد خبراء العلاقات الأسرية أن المبالغة في المظاهر وخاصة المادية تعكس خللا في فهم جوهر الزواج، وتؤدي إلى مشكلات لاحقة، فالعلاقات لا تُبنى على الإنفاق بل على التفاهم والاستعداد النفسي للحياة المشتركة، كما أن البداية المثقلة بالديون والضغوط تعكر صفو العلاقة من أول أيامها، حيث أكدت الدراسات العالمية أن التكاليف العالية التي ترهق الزوجين، وتخلق توقعات غير واقعية لما ستكون عليه الحياة بعد الزواج، تؤدي بنسبة عالية إلى خيبة أمل مبكرة عند اصطدام الطرفين بالواقع اليومي، ووجد الباحثون في دراسة أخرى أمريكية (2020م) أن الزواج القائم على التفاهم المالي المشترك، والبدء في الحياة الزوجية دون ديون ناتجة عن الحفل، يرتبط مباشرة بارتفاع مستويات الرضا الزوجي على المدى الطويل، في المقابل توصلت دراسات أجريت في بلدان مثل السويد وهولندا إلى أن الأزواج الذين يفضلون حفلات بسيطة، غالبا ما يُظهرون مستويات أعلى من الاستقرار الأسري، وذلك لكونهم يُركّزون منذ البداية على الحوار، والتخطيط المشترك، وميزانية الأسرة وثقافة الادخار، والتوزان في الأدوار.

الرسالة المستخلصة من هذه الدراسات واضحة: حين تبدأ العلاقة على أسس مالية مضطربة، أو محاطة بضغط اجتماعي وإرهاق اقتصادي، فإنها غالبا ما تترنح تحت وطأة هذه الظروف، أما حين تُبنى على عقلانية وواقعية، فإن فرص النجاح تكون أعلى بكثير.

لماذا تكبرنا على برحة الحي؟ كانت أكبر مناسبات الزواجات تتم في برحة الحي، ولا يمكن أننا صدقنا أن الفرح صار لازم يكون في قاعة خمس نجوم، بإضاءة ناعمة، وفلاتر، وكوشة فيها ورود أكثر من حدائق الدينا، صرنا نحس أن البساطة معناها فقر، وأن الضحك العفوي ما يليق بمظهرنا "الراقي"، كبرنا، وصرنا نخجل من اللي كان يفرحنا، نستحي نرقص في برحة الحي، بس نرقص عادي في قاعة فيها غرباء، نستكثر نجتمع مع أهل الحارة، لكن عادي ندفع الآلاف عشان نجتمع مع ناس بالكاد نعرفهم، صرنا نبي كل شيء "يطلع حلو في التصوير"، ناسين أن أحلى الذكريات ما كانت تتصور أصلا، برحة الحي كانت مسرح البراءة، وجمعة القلوب، وتبادل الصحون، وعلو الضحكات، لكن الحقيقة؟

ما كبرنا على برحة الحي، إحنا بس تظاهرنا أننا كبرنا، لأننا نرجع إليها دايم، في الحنين، في القصص، وفي جلساتنا دائم نقول "تتذكرون"؟

لذا أقترح إعادة إحياء ثقافة "برحة الحي" وإيجاد تنظيم مناسب لها وفق وقتنا الحالي لإقامة المناسبات السعيدة والزواجات أو الأعياد لأهالي الحي.

3OMRAL3MRI@

أخبار ذات صلة

0 تعليق