نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ظاهرة الانفلات في الدراسات العليا وانعكاساتها العلمية والتنموية والاجتماعية, اليوم الأحد 27 يوليو 2025 11:36 مساءً
منذ بداية التعليم الجامعي بشكل عام والدراسات العليا بشكل خاص في المملكة، والهدف الأساسي الذي يتم التركيز والتأكيد عليه هو تخريج الكفاءات الوطنية في جميع التخصصات العلمية بما يخدم التنمية في مجالاتها المختلفة، ولذا كان استهداف المتميزين من الطلاب والطالبات واستقطابهم في الدراسات العليا من المرتكزات الأساسية لعقود مضت، ولتحقيق ذلك وُضعت لائحة مستقلة للدراسات العليا ضمن لوائح التعليم العالي مع تطويرها بشكل دائم لضمان المستوى المطلوب.
إلا أن مسار الدراسات العليا لم يستمر في هذا الاتجاه عندما بدأ الهدف المادي يتسلل إلى أهداف الدراسات العليا؛ وذلك عندما بدأ اعتماد ما عُرف بالبرنامج الموازي في الماجستير قبل عشر سنوات بالاستناد على فكرة تحمل الطلاب الجانب المالي مقابل التحاقهم بهذا البرنامج وإغراء أعضاء هيئة التدريس ماليا نظير كل محاضرة يقدمونها للطلاب، ورافق ذلك التنازل عن الشروط المؤهلة للدراسات العليا وأهمها تقدير الطالب في مرحلة البكالوريوس، واستبعاد الرسالة العلمية لجذب الطلاب وتسهيل الدراسة عليهم حتى صار المقبولون من ذوي المستويات العادية والمتدنية، واستمر هذا البرنامج - الذي لم يلق قبولا من الأكاديميين الذين يتعاملون من مبدأ علمي محض - عدة سنوات حتى بدأت نتائجه السلبية تطفو على السطح، وبدأت مشكلات الطلاب تظهر بشكل لم يؤخذ في الحسبان مما اضطر رؤساء الجامعات (المديرون آنذاك) إلى الاجتماع وإقرار إغلاق هذا البرنامج.
الغريب أن مجلس شؤون الجامعات ورئاسات الجامعات لم يستفيدوا من تجربة البرنامج الموازي للماجستير التي ثبت فشلها، حيث عاد التغاضي عن نوعية المقبولين في الدراسات العليا في السنوات الأخيرة لاعتبارات فيما يبدو أنها اقتصادية؛ والحقيقة أنها اعتبارات غير مدروسة لأن نتائج هذا الاتجاه هي الإضرار بواقع التعليم والاقتصاد معا. وعندما أصبحت النظرة المادية المحور الذي تدور عليه أهداف الدراسات العليا عند مجلس شؤون الجامعات ورئيسات الجامعات كانت النتيجة استحداث برامج للماجستير والدكتوراه برسوم مالية يتحملها الطلاب والطالبات؛ ولكن هذه المرة باسم البرامج المدفوعة.
لقد أصبح التهاون الآن في مجال القبول للدراسات العليا جليا، ويؤكد ذلك أعداد المقبولين غير الطبيعية التي تصل إلى الأربعين طالبا وطالبة في القسم الواحد في الدفعة الواحدة، وصارت بعض الكليات خاصة الكليات التربوية والإنسانية تقبل في الدفعة الواحدة ما بين (900) إلى (1000) طالب وطالبة في استبعاد صريح للمعايير الأكاديمية في القبول للدراسات العليا في البرامج المدفوعة وغير المدفوعة من حيث التقدير المطلوب في درجة البكالوريوس، وعدد أعضاء هيئة التدريس، والنصاب المفترض لكل عضو هيئة تدريس في الإرشاد والإشراف على الرسائل العلمية، والدرجة العلمية لأعضاء هيئة التدريس حتى أصبح من تعين حديثا على درجة أستاذ مساعد في بعض الكليات يمكن أن يعطي محاضرات لطلبة وطالبات الماجستير وحتى الدكتوراه وهو ما كان محظورا ومستنكرا، وهذا ما يحدث حتى في الجامعات الحديثة التي لم تنضج تجاربها في مرحلة البكالوريوس حتى الآن، ولم تتأهل بالطريقة الصحيحة للدراسات العليا.
الوضع الحالي للقبول في الدراسات العليا في جامعات المملكة له انعكاساته السلبية على أكثر من صعيد؛ ففي الجانب العلمي يتم النزول اضطرارا في اختبارات المقررات إلى مستوى الطلاب والطالبات لمراعاة الوضع غير العادي، ولضمان استمرارية البرامج، ولتفادي المشكلات نتيجة قناعة الطلاب والطالبات وتصورهم أن من حقهم الحصول على المؤهل مقابل ما دفعوا من مبالغ. ومن جانب آخر لا يستطيع هؤلاء الطلاب والطالبات بمفردهم في هذا الوضع إنجاز الرسائل العلمية التي تحتاج إلى قدرات علمية وبحثية عالية دون الحصول على مساعدات غير نظامية؛ وهي مساعدات متاحة في ظل الواقع الذي يُستهدف فيه الطلاب والطالبات في منطقة الخليج عموما في هذا الجانب مما يشكل بيئة علمية غير نقية، ويساعد في حصول هؤلاء الطلاب والطالبات على درجات علمية عالية وهم ليسوا أهلا لها، والنتيجة النهائية تخريج مستويات متدنية من الطلاب والطالبات تسيء إلى جامعاتنا وسمعتها، وتُفقد الثقة في مخرجاتها، وتعطي انطباعا عاما مؤداه تدني مستوى التعليم في المملكة.
أما التأثير على الجانب التنموي فإن شهادات هؤلاء الطلاب والطالبات الرسمية ستسمح لهم بالالتحاق بالجامعات والمراكز العلمية والإدارات الحكومية؛ مما سيضعف أداء هذه القطاعات؛ ويجعل إنتاجيتها دون المستوى المطلوب، فالمؤهلات غير النقية سينتج أصحابها مخرجات غير نقية، ولا يجب أن نغفل في هذا السياق حقيقة أن استمرارية الوضع القائم للقبول في الدراسات العليا ستسهم في بروز بطالة حاملي الشهادات العليا، والتي ستظهر لنا كمشكلة إدارية يصعب التعامل معها ما لم تُؤخذ الإجراءات المناسبة لتفاديها؛ وهي مشكلة معروفة تعاني منها الكثير الدول ومنها بعض الدول العربية.
أيضا هذا الوضع له آثاره الاجتماعية السلبية، فبطالة حملة الشهادات العليا لها بعد اجتماعي، حيث يرى أصحابها أنهم مؤهلون ومهمَلون ولا يحظون بأعمال مناسبة لمؤهلاتهم وفقا لتصوراتهم، ومن الآثار الاجتماعية السلبية الأكثر خطورة أن هذه البرامج المدفوعة متاحة للمقتدرين ماديا فقط بغض النظر عن قدراتهم العلمية، فهم من يستطيع الالتحاق بهذه البرامج بينما الطلاب والطالبات من الأسر بسيطة الدخل لا يستطيعون الالتحاق بها مهما كان تميزهم العلمي، وهذا مما سيولد لديهم الشعور بالإحباط، ويزيد من حدة التفاوت بين أفراد المجتمع على أساس مادي بحت.
الدراسات العليا يجب أن تتاح فقط لكل مؤهل ومؤهلة، وهذا يستدعي وضع معايير تحافظ على ذلك وتساعد على فتح الباب للمتميزين والمتميزات على أساس مهني دون أن يجدوا المال شرطا وعائقا أمامهم، وألا يترك الوضع كما هو عليه الآن. وهنا علينا أن نتذكر فكرة التوصيات التي تطلبها الجامعات في العالم كله من المتقدمين للدراسات العليا، وأن نفكر في مغزاها، وهي شرط يثبت أهمية التميز والتفرد لأي متقدم للدراسات العليا.
وإذا كان الحد الأدنى للتقدير في البكالوريوس المطلوب للالتحاق ببرامج الماجستير في السابق جيد جدا (3.75 من 5) مبالغا فيه فيمكن تخفيضه إلى تقدير جيد مرتفع (3,50 من 5)، أما أن يستمر الوضع الحالي كما هو، حيث يمكن أن يُقبل أي طالب حاصل على تقدير جيد بمعدل (2,75) بحجة أن ذلك معمول به في الجامعات الغربية؛ فنؤكد أن هذا التقدير في حالة جامعات المملكة لا يعد بالضرورة مؤهلا للقبول في الدراسات العليا لوجود بعض العوامل المؤثرة على منح الدرجات في جامعات المملكة؛ منها طبيعة الثقافة الأكاديمية السائدة لأعضاء هيئة التدريس، ووجود المتعاقدين من جنسيات مختلفة بنسب عالية في الأقسام العلمية؛ وهم تحت الشعور بضغط التجديد السنوي لعقودهم.
الاتجاه نحو اعتماد الجامعات ماليا على نفسها اتجاه مقبول، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بالاعتماد على مشاريع الأوقاف كما هو الحال في الجامعات الكبرى في العالم، وليس على جيوب الطلاب والطالبات، إذ إن الاسترشاد بالجامعات الغربية بالنسبة للرسوم نظرة غير سليمة، لأن الطلاب في الجامعات الغربية، خاصة الدراسات العليا أجانب بنسبة عالية، وينظر إلى قبول هؤلاء الطلاب في تلك الجامعات كرافد مالي يأتي ضمن الدخل القومي لتلك الدول، أما الوضع في حالة جامعات المملكة فهو مختلف لأن طلاب وطالبات الدراسات العليا مواطنون في الجملة، وما تحصل عليه الجامعات منهم لا يعد في المحصلة النهائية إضافة للدخل القومي للمملكة.
0 تعليق