نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قرية الأطاولة التراثية: ذاكرة وطنية تمهد طريقها إلى اليونسكو, اليوم الاثنين 4 أغسطس 2025 10:43 صباحاً
وحين يخطو الزائر أولى خطواته داخل القرية التراثية، يواجه مشهدا معماريا نابضا بالذاكرة؛ بيوت حجرية وأزقة ضيقة تعكس تاريخا طويلا من العيش المشترك، حيث لم يكن المكان مجرد إطار للسكن، بل حاضن لعلاقات إنسانية وثقافية شكلت وجدان المنطقة، وعندما ينتقل السائح إلى دار عوضة، يجد نفسه أمام صورة دقيقة للبيت الجنوبي بما يحمله من تفاصيل حميمة: أدوات المعيشة اليومية، مشاهد الضيافة، وروح الأسرة الممتدة التي كانت العمود الفقري للمجتمع، وحين يتجه إلى متحف الفيان التراثي، فسيجد متحفا قد تجاوز دوره التقليدي، ليضيف بعدا نوعيا من خلال النُزل الفندقية التي تمكن الزائر من المبيت داخل البيت التراثي نفسه، وبذلك تنتقل التجربة من حدود المشاهدة العابرة إلى معايشة كاملة، حيث يصبح السائح جزءا من الحكاية، ويعيش تفاصيل المكان ليلا ونهارا.
إن هذا التكامل في عناصر التجربة لم يكن ليحدث لولا وعي المجتمع المحلي وقدرته على تنظيم أدواره؛ فالمبدع صاغ الفكرة، والمخطط رسم التفاصيل، والمنفذ بث الحياة في المشروع، والداعم قدم الإمكانات، والمتلقي جاء ليمنح التجربة معناها، وبهذا، لم تعد الأطاولة مبادرة فردية، بل منظومة مجتمعية متكاملة تترجم التحولات التي تسعى المملكة إلى ترسيخها في إطار رؤية 2030، خاصة في محوري تنمية السياحة الداخلية وتعزيز الهوية الوطنية.
ومن زاوية علمية، يمكن تفكيك تجربة الأطاولة إلى أربعة أبعاد أساسية تتسق مع معايير التراث العالمي: الأول، الأصالة العمرانية، حيث جرى الحفاظ على النمط المعماري الجنوبي بملامحه المادية والرمزية، والثاني، الذاكرة الثقافية غير المادية، والتي تتجلى في الأسواق الشعبية، الفلكلور، الحرف، والمأكولات المحلية التي تربط الزائر بروح المكان، والثالث، المشاركة المجتمعية الفاعلة، إذ لم يعد المجتمع مجرد متلقٍ، بل شريك أساسي في صياغة التجربة وإدارتها، والرابع الاستدامة، من خلال إضافة النُزل الفندقية، وتطوير خطط للأرشفة والتوثيق، وربط التجربة بالمسارات السياحية الوطنية.
وعند النظر إلى تجارب مماثلة، نجد أن الأطاولة توازي محليا ما تحقق في رجال ألمع، التي تمكنت بفضل جهود المجتمع والشراكات المؤسسية من الوصول إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو، كما تلتقي مع الدرعية التاريخية، التي باتت أيقونة وطنية ومشروعا عالميا متكاملا، في استثمار العمارة والفنون الشعبية لصياغة مشهد ثقافي يعبر عن الهوية السعودية، وعلى المستوى العالمي، تتقاطع الأطاولة مع تجارب مثل قرية تشيفيتا دي بانيوريدجو في إيطاليا، التي تحولت من قرية شبه مهجورة إلى وجهة سياحية عالمية عبر الجمع بين الأصالة وإعادة إحياء تفاصيل الحياة اليومية، وتجربة غراينغر في النرويج، التي نجحت في المزج بين الطبيعة والذاكرة الثقافية لتصبح وجهة عالمية رغم صغر حجمها.
غير أن نجاح الأطاولة حتى الآن لا يكفي وحده لضمان استدامة التجربة، إذ تظل هناك حاجة ملحة إلى خطوات استراتيجية، أبرزها: تأسيس مجلس تنسيقي يضم المبدعين والمخططين والمنفذين والداعمين لرسم رؤية طويلة المدى، وإطلاق مشروع أرشفة رقمية وعلمية يوثق المقتنيات والحكايات الشفوية ويجعلها متاحة للأجيال القادمة، وبناء شراكات محلية مع وزارة الثقافة وهيئة التراث، والانفتاح على شراكات دولية مع منظمات مثل اليونسكو، كما أن تحويل الأطاولة إلى مركز حي للتعليم والتدريب على الحرف والفنون الشعبية سيعزز حضورها الدائم، ويجعلها منصة متجددة لا تنتهي فعالياتها بانتهاء الموسم.
إن الأطاولة اليوم تقف على عتبة فارقة، فهي لم تعد مجرد قرية تستحضر ماضيها، بل مشروع وطني يختصر وعيا جمعيا بأهمية التراث كقوة ناعمة، وإذا استمرت في هذا المسار، فإنها مرشحة لأن تسجل يوما ما ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، بوصفها ذاكرة وطنية تروى بوعي وفخر، وتجربة تعيد للإنسان انتماءه، وللمكان قيمته، وللوطن حضورا يليق بمكانته على الخريطة العالمية، وهنا فقط تتحول الأطاولة من قرية صغيرة في الباحة إلى ذاكرة إنسانية عالمية، تثبت أن الثقافة حين تصنع بالحب والوعي تصبح جسرا حيا بين الماضي والمستقبل.
Drmutir@
0 تعليق