تقنين السن الرقمي... حين تصبح حماية عقل الطفل واجبا لا خيارا

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تقنين السن الرقمي... حين تصبح حماية عقل الطفل واجبا لا خيارا, اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025 03:51 صباحاً


لسنا أمام نقاش تقني، ولا اختلاف في وجهات نظر تربوية، بل أمام سؤال أخلاقي واقعي: من يحمي عقل الطفل؟ قرار أستراليا بحظر وسائل التواصل الاجتماعي على من هم دون السادسة عشرة لم يكن تشددا ولا وصاية، بل اعتراف صريح بأن ما يحدث للأطفال في الفضاء الرقمي خرج عن السيطرة. أن تترك طفلا وحيدا أمام خوارزميات لا تنام، ولا تشبع، ولا ترحم، ليس تطورا، بل تسليم هادئ للعقل قبل أن يكتمل.

في بيوتنا، الهاتف حاضر منذ الطفولة الأولى، لا بوصفه أداة، بل مهدئ، ومكافأة، وحارس صامت. نمنح الطفل حسابا قبل أن نمنحه لغة، ونضع بين يديه شاشة قبل أن نعلمه ضبط ذاته. المشكلة ليست في الجهاز، بل في الحسابات الخاضعة لخوارزميات لا تعبأ بثقافتنا، ولا بقيمنا، ولا بأعمار أبنائنا. خوارزميات عابرة للقارات، لكنها تزرع في كل بيت المقارنة، والسطحية، والتوتر، وتعيد تعريف النجاح والجمال والقبول بمعايير غريبة عن سياقنا الاجتماعي والديني. وحين يكون العقل غضا، غير مكتمل، فإن الأثر لا يكون عابرا بل تأسيسي.

نطالب الطفل بأن يكون «واعيا»، «محصنا»، «عارفا بالصح والغلط»، بينما نلقي به في عالم رقمي صاخب، لا يراعي عمرا ولا فطرة، علوم الأعصاب تؤكد ما يحاول البعض تجاهله: دماغ الطفل دون السادسة عشرة غير مكتمل في مناطق التحكم، والتركيز، وضبط الاندفاع. ومع ذلك، نجعله يواجه طاحونة رقمية لا تهدأ. محتوى سريع، مقارنات جارحة، إثارة متواصلة، حتى الإعلانات في هذه البرامج، تتسلل عبرها مشاهد العنف والإباحية إلى وعي الطفل، لتترك أثرا لا يزول، يخلخل براءته قبل أن يدرك العالم حوله. ثم نستغرب القلق، وتشتت الانتباه، واضطراب النوم، والانحدار الدراسي. كأننا نضع طفلا في قلب عاصفة، ثم نلومه لأنه ارتجف.

في كتابه اللافت (الجيل القلق)، يقرع عالم النفس الأمريكي (جوناثان هايدت) ناقوس الخطر بلا مواربة. يوثق ارتفاعا حادا في معدلات القلق والاكتئاب والانتحار منذ عام 2012، خاصة بين الفتيات اليافعات، في تزامن صارخ مع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه ليست صدفة زمنية، بل تحول ثقافي عميق. يسميه هايدت «الطفولة القائمة على الهاتف»، حيث انتقل الطفل من عالم اللعب، والحركة، والتجربة، إلى عالم الشاشة، والعزلة، والمراقبة المستمرة للذات بعيون الآخرين. وأصبح الجهاز رفيقا دائما، ومربيا خفيا، وسلطة موازية تسحب الأطفال من واقعهم، وتضعهم في عوالم لا يملك الأهل مفاتيحها.

في مجتمعات كانت تقوم على القرب، والمجالس، والحديث، والقدوة، تركنا فراغا كبيرا ملأته الشاشة. الأهل منشغلون، والمدرسة مثقلة، والشارع لم يعد آمنا كما كان، فسلمنا الطفل للهاتف. الخوارزميات اليوم تقوم بدور المربي الخفي: تعلمه ماذا يحب، وماذا يكره، ومن يقلد، ومن يسخر منه. يجد الطفل نفسه وحيدا أمام عالم واسع، يقدم له كل شيء إلا الطمأنينة. هنا، يصبح تقنين السن الرقمي ليس ترفا تنظيميا، بل ضرورة تربوية وأمن نفسي.

تقنين السن الرقمي ليس إعلان حرب على التكنولوجيا، بل إعلان مسؤولية تجاه الإنسان. هو تأجيل واع، يمنح الطفل فرصة أن ينمو على مهل: أن يتعلم الصداقة وجها لوجه، والملل الخلاق، واللعب الحر، والقراءة، والإنصات لذاته. فالتقنية لن تهرب، لكنها إن سبقت الوعي، دمرته. والعقل إن استنزف مبكرا، يصعب ترميمه لاحقا. القرار الأسترالي لا يقول: امنعوا، بل يقول: انتبهوا. فحماية العقل، في زمن الضجيج، هي أرقى أشكال التقدم، وأصدقها.

أطفالنا ليسوا حقل تجارب لشركات لا تعرف أسماءهم، ولا يعنيها مستقبلهم. وإن لم نضع نحن الحدود، فستضعها الخوارزميات بطريقتها، وحينها، لن ينفع الندم، ولا الخطب، ولا البحث عن حلول متأخرة. هذه ليست معركة تقنية، بل معركة أخلاقية، ومن يخسرها اليوم سيدفع ثمنها غدا جيل كامل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق