نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عائشتي رحلت أما الأثر فلا, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 12:51 صباحاً
ليس كل رحيل يختزل في خبر عابر، ولا كل فقد يداوى بعبارات جاهزة؛ فثمة أناس إذا غابوا تركوا فراغا لا تملؤه الأيام بسهولة، لأن حضورهم لم يكن وجودا فحسب، بل كان تجسيدا لمعاني السكينة، والرفق، والاتزان، والإصلاح الصامت.
في زمن تقاس فيه القيمة بما يقال وما ينشر، تبقى للأثر الخفي هيبته؛ أثر من يربي دون صخب، ويهذب دون وعظ طويل، ويجمع القلوب دون أن يعلن عن نفسه؛ هؤلاء هم «المدارس» الحقيقية؛ مدارس لا تختصر في ألقاب، بل في سلوك يومي يمر على الناس فيتركهم أفضل حالا، والمدرسة في معناها الواسع الذي أريده هنا ليست فصلا دراسيا، بل بيت يدار بالحكمة، ومجلس يدار باللين، وخلاف يدار بالعقل، ويد تمد بالكرم دون أن تشعر أحدا بثقل المعروف، وعين ترى احتياج الآخرين قبل أن يتكلموا، ولسان يسلم منه الناس، وقلب لا يعرف صناعة الأذى ولا يتقنها، ومن ألطف ما يبقى في الذاكرة الإنسانية المروءات الصغيرة، ككلمة تقال في وقتها فتطفئ توترا، وصمت كريم يدفن جدلا كان سيفسد مودة، وعطاء مستور يحفظ كرامة محتاج، واعتذار رقيق يرمم منغصات العلاقات؛ تلك التفاصيل هي التي تصنع وزن الإنسان، وتكتب سيرته الحقيقية بعيدا عن أي ادعاء.
الجمعة قبل الماضية فقدت أختي الكبرى، الشريفة عائشة رحمها الله؛ التي كانت مدرسة للجميع، عاشت ثماني وتسعين سنة، وأنجبت عشرة من الذرية المباركة، ربتهم أحسن تربية، وتركت لهم «وصية» جامعة مانعة؛ وكانت رمزا للأدب والاحترام، أنيقة في مظهرها، كريمة في عطائها، حكيمة في مواقفها، ولم نعرف عنها أذية أو أسية؛ تجبر خواطر الناس، وتواسيهم بلا فضول، وتنصحهم بلا تعال، وتصلح عيوبهم بلا تشهير، وكانت تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، ومتى تعاتب ومتى تتغافل، وكانت ذات بصيرة نافذة بالعواقب قبل وقوعها، مع توازن بين الحق والرحمة، ولم يكن صلاحها شعارا، بل استقامة ترى في الأخلاق قبل الشعائر، مع يقين قوي في خالقها، جل جلاله، وسلامة صدر، ونظافة لسان، ويد لا تؤذي، وقلب لا يحمل غلا ولا يصنع شرا، وسلام تام مع نفسها، وود مع من حولها، وإشعار لجليسها أنه الأحب إليها.
أختي الشريفة عائشة، عميدة أسرتي وأكبر إخوتي، وأنا أصغرهم؛ ونحن ثلاثة عشر أخا وأختا، من أمين كريمتين، وقد سبقتنا إلى الرفيق الأعلى قبل واحد وعشرين عاما أختنا خديجة، الثالثة في الترتيب، فاجتمع في القلب فقدانان؛ قديم لم ينس، وجديد موجع، وقد جمعتني بأختي «ستيتة» عائشة «فدعقية»، علاقة سكينة وطمأنينة لا أحسن وصفهما بالكلمات، وما زال في النفس شيء من الحسرة على «ثلاثة» أسرار وأمان ووعود بيننا؛ فإذا بالقدر يسبق، ولا يبقى إلا الوفاء، بحول الله، ولو بعد الرحيل.. اللهم اغفر لأختي عائشة، وارفع درجاتها، وافسح لها في قبرها، ونور لها فيه، واغفر لنا، ولزوجها السيد هاشم عقيل وابنها علي ولجميع موتى المسلمين، يا رب العالمين، واخلفها في الباقين من أبنائها وبناتها الكرام البررة.
خاتمة وإضاءة:
ارتأى أبناء وبنات الفقيدة بالإجماع أن تكون مراسم العزاء بلا عشاء، ووافقهم الإخوة والأخوات بالأغلبية، وحولت المبالغ والتكاليف المتعلقة بذلك للجمعيات الخيرية المعتمدة، وتم الاعتذار لكل الكرام من الأرحام والأصهار الذين رغبوا في المساهمة بالعشاء، وطلبنا منهم تحويل مساهماتهم للجمعيات الخيرية.. قال صلى الله عليه وسلم، لما جاءه نعي ابن عمه، سيدنا جعفر بن أبي طالب، الملقب بالطيار «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم».


















0 تعليق