القانون في مواجهة الذكاء الاصطناعي

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
القانون في مواجهة الذكاء الاصطناعي, اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 01:49 صباحاً

أثارت الفضيحة الإعلامية التي طالت شبكة BBC خلال الأسابيع الماضية موجة واسعة من الجدل، خصوصا بعد أن تبين أن المادة المصورة التي ظهر فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانت منتجة بالكامل عبر تقنيات التزييف العميق المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. هذا الحدث لم يكن مجرد خطأ إعلامي عابر، بل كشف أمام العالم حجم التحدي الذي تفرضه هذه التقنيات الحديثة، وقدرتها على توليد محتوى صوتي أو بصري يبدو واقعيا إلى درجة تصعب التمييز بين الحقيقة والزيف، الأمر الذي يضع المؤسسات والأفراد أمام مخاطر جديدة تتعلق بالثقة والمصداقية والمساس بالسمعة.

وفي السياق السعودي، تأتي هذه التحديات ضمن بيئة تقنية متقدمة تعد فيها المملكة من الدول الرائدة عالميا في التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي؛ إذ تحتل المملكة المرتبة الرابعة عالميا في مؤشر الخدمات الرقمية، وتحقق مراكز متقدمة في مؤشرات الجاهزية التقنية والحوكمة الرقمية. هذا التقدم يشكل أرضية خصبة لاستقبال الابتكار، لكنه في الوقت نفسه يزيد الحاجة إلى أطر نظامية واضحة تحمي المجتمع من إساءة استخدام هذه الأدوات، خاصة تلك التي تمس بالهوية البصرية والصوتية للأفراد أو الجهات.

وعند النظر في المنظومة النظامية في المملكة العربية السعودية، يتضح أن التزييف العميق - سواء للأصوات أو الصور أو مقاطع الفيديو - يعد من الأفعال التي تندرج تحت مفهوم الاعتداء الالكتروني. فالفقرة الخامسة من المادة الثالثة من نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية تجرم التشهير بالآخرين أو إلحاق الضرر بهم باستخدام الوسائل التقنية، وتفرض عقوبة تصل إلى السجن سنة أو الغرامة 500,000 ريال أو بهما معا. هذا النص يشمل بشكل مباشر أي محتوى مزيف يستهدف شخصا طبيعيا أو اعتباريا ويتضمن تشويها للسمعة أو تحريضا أو تضليلا.

كما أن الفقرة الرابعة من المادة ذاتها تجرم المساس بالحياة الخاصة عن طريق إساءة استخدام الهواتف المزودة بالكاميرا أو ما في حكمها، وهو توصيف يمكن تنزيله على الممارسات الحديثة للتزييف العميق التي تنتج صورا أو مقاطع مصورة خادعة تمس خصوصية الأفراد، سواء أكان ذلك بهدف الإساءة أو الابتزاز أو العبث بالهوية الرقمية.

ومن زاوية أشمل، تعد الفقرة الأولى من المادة السادسة من النظام حجر الأساس في مواجهة المحتوى المزيف المنتج عبر الذكاء الاصطناعي؛ إذ تعاقب كل من ينتج أو ينشر أي مادة تمس النظام العام أو القيم الدينية أو الآداب العامة أو حرمة الحياة الخاصة بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات، وهي مادة واسعة تغطي أغلب أشكال المحتوى الضار، بما في ذلك المقاطع التي ينتجها التزييف العميق ويتم تداولها على أنها حقيقية. وتتسع مساحة المسؤولية بموجب المادة التاسعة، التي تنص على معاقبة كل من حرض أو ساعد أو اتفق مع آخرين على ارتكاب أي من الجرائم الواردة في النظام، حتى وإن لم يقع الفعل الأصلي، وذلك بما لا يتجاوز نصف الحد الأعلى للعقوبة. وهذا يعني أن مجرد إعادة نشر المقطع المزيف أو المشاركة في تداوله يمكن أن يعرض صاحبه للمساءلة.

ولا تنحصر الآثار في الجانب الجنائي، بل تمتد إلى المسؤولية المدنية وفق نظام المعاملات المدنية. فالنظام يقرر بصيغة واضحة أن "كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض"، وهو مبدأ عام يغطي الأفعال الرقمية الحديثة بما فيها التزييف العميق. وقد حسمت المادة (138) من النظام مسألة التعويض عن الضرر المعنوي، موضحة أن الضرر يشمل الأذى الحسي أو النفسي الناتج عن المساس بالجسم أو الحرية أو العرض أو السمعة أو المركز الاجتماعي. وهذا يمكن المتضرر من أي مقطع مزيف يمس سمعته أو شخصيته أو وضعه المهني من المطالبة بالتعويض الكامل عن الضرر المادي والمعنوي.

وبالنظر إلى هذا المشهد المعقد، تتضح الحاجة المتزايدة إلى وجود مستشارين قانونيين وشركات محاماة تمتلك خبرة تقنية وقانونية متخصصة، وقادرة على فهم السلوك الرقمي وتحليل الأدلة الالكترونية. فالمستشار القانوني المتخصص يستطيع فحص المحتوى الرقمي والتحقق من أصالته، وتتبع مسار نشره، وجمع الأدلة الرقمية الصالحة للاستخدام القضائي، ورفع دعاوى جنائية ومدنية لحماية حقوق المتضررين. كما يمكنه مساعدة المؤسسات على بناء سياسات داخلية لحماية قياداتها وموظفيها من خطر المقاطع المزيفة، وتقديم الاستشارات الوقائية قبل استخدام أي أداة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، بما يضمن تقليل المخاطر قبل وقوعها.

إن المملكة - بما حققته من تقدم تقني ومكانة عالمية - تقود مرحلة جديدة من التحول الرقمي، غير أن هذا التحول لا يكتمل أثره إلا بوعي قانوني وممارسات مسؤولة تواكب سرعة التطور وتحمي المجتمع من إساءة استخدام التكنولوجيا. ويصبح التعاون بين الجهات التنظيمية والمؤسسات والأفراد عنصرا أساسيا في تعزيز الأمن الرقمي، وصون السمعة، وضمان التطبيق السليم للأنظمة، في وقت بات فيه التمييز بين الحقيقة والزيف تحديا يوميا يواجه مختلف القطاعات.

أخبار ذات صلة

0 تعليق