نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإسلاموفوبيا: الاعتراف بالظاهرة أولا, اليوم الأحد 10 أغسطس 2025 06:01 صباحاً
منذ أن ظهر مفهوم الإسلاموفوبيا في أواخر القرن العشرين الميلادي، ونحن كمسلمين على صعيد المؤسسات السياسية والدينية وبعض مؤسسات المجتمع المدني، نعمل على إنكار حيثيات مفهوم المصطلح، ونقوم بتدبيج المقالات والمذكرات التي تؤكد حالة الاعتدال في بنية الفكر الإسلامي، مستشهدين بنماذج متنوعة من وقائع تاريخ المسلمين، ولم نكتف بذلك، بل عمدنا إلى تنظيم عدد من المؤتمرات واللقاءات العلمية التي تعلي من قيمة الاعتدال والتسامح.
وواقع الحال فكل ما يذكره المدافعون ويستشهدون به من نماذج لتأكيد اعتدال الدين الإسلامي هو صحيح بالمطلق وحق ثابت، غير أن كل ما تم ذكره وكتابته وعرضه لم يلغ الظاهرة، ولم يحد من قناعة الآخر بما رسخ في ذهنه من خوف إزاء طبيعة الخطاب الديني الذي يؤمن به المسلمون بشكل عام، ولا سيما أن بعض المنظمات المعادية للمسلمين تستغل نماذج التطرف الديني في أوروبا، والتي أدت إلى التحاق عدد من أبناء المسلمين المهاجرين وغيرهم بالقاعدة وداعش، لتكريس ظاهرة الإسلاموفوبيا في الذهن والوجدان الغربي، والسؤال: أين يكمن الإشكال؟ ولماذا ظل خطابنا قاصرا عن تقديم وعرض مكنون الإسلام المثالي المعتدل في أوساط المجتمعات الغربية بوجه عام؟
في قناعتي كباحث متخصص في التاريخ الفكري للمسلمين فإن الإشكال ليس في الذهنية والوجدان الغربي التي نتوجه إليه بالخطاب، وليس كذلك في الصور المثالية التي نتبناها في عرضنا لنموذج الاعتدال في مكنون ديننا بوجه عام، بل هو كامن في طبيعة السياق الذي نعالج فيه هذه الظاهرة وما يترتب عليها، والصيغة التي نعرض فيها خطابنا الديني.
أعني أننا كمسلمين وعلى صعيد المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، لم نقف ابتداء وقفة صادقة لمراجعة موروثنا الديني المليء بالغث والسمين، الصالح والطالح، الصحيح والمغلوط، ولذلك فكلما أظهرنا جانبا من شواهد الاعتدال، تظهر في الأفق شواهد أخرى متطرفة ترتكز في بنية تأسيسها ومنطلق نظرتها للآخر المختلف من منظور ديني أيضا. وبالتالي فكل جهد يقوم به المعتدلون في نفي المفهوم يسقط مع ظهور أول فعل ديني متطرف، وينهار مع بروز مختلف السلوكيات المعلنة والممارسة في إطار مجتمعنا المسلم أولا، وفي إطار نظرتنا للمجتمعات الأخرى.
هذا السياق الإجرائي هو ما تنبه له ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان حال ابتداء تصحيحه للواقع المجتمعي في السعودية، فكان إعلانه بوجوب مراجعة الحديث النبوي الشريف واعتماد الحديث المتواتر منه، والذي هو المعتمد الرئيسي في بناء الأحكام الدينية.
هذا الإجراء هو البداية لكل بداية صحيحة، وحتما فمضمونه قائم على الاعتراف بالظاهرة وليس إنكارها، وأجد أن ذلك هو البداية الصحيحة للتصحيح، ذلك أن تراثنا الديني معبأ بكثير من النصوص الخبرية والأحادية التي يستفيد منها المتطرفون ويجعلونها مستندا لهم في خطاباتهم التحريضية، ومن ثم يتخذونها منطلقا لأفعالهم الإرهابية إزاء كل من يختلف معهم سواء كان مسلما أو غير ذلك. والشواهد على ذلك عديدة ومستمرة حتى اليوم في إطار مجتمعنا المسلم أولا، وما شاهد حيثيات الصراع في السويداء بسوريا إلا نموذجا بسيطا لما أشير إليه، حيث تحول الإشكال في الصراع الدائر بين الدولة وأحد القوى المركزية في السويداء من إشكال سياسي مناطه الاستقواء بإسرائيل والنية في الانفصال، إلى إشكال مذهبي ديني مناطه محاربة الدروز والدفاع عن أهل السنة.
مظاهر هذا السياق وإن كانت قليلة في نسبتها لكنها هي التي تظهر وترسخ في الذهن والوجدان المحلي والإقليمي والدولي، وهو ما يجب أن يدركه الواعون ويعملون على محاربته، وذلك بالتأكيد على المواطنة العادلة التي ترتكز على المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين بعيدا عن مفهوم الأقلية والأكثرية، والإطار الطائفي والمذهبي والعرقي.
في السياق ذاته فأؤمن بأننا أمام مرحلة يجب أن يتضامن فيها كل المسلمين المؤمنين بالاعتدال، ليعلنوا صيغة رسمية للخطاب الإسلامي الصحيح، والتي تقر بأن الحاكمية لله أولا وأخيرا، وتؤكد على الالتزام بثوابت الدين الإسلامي وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين تحديدا، على أن يتم اعتماد ذلك من جميع المؤسسات الدينية الرئيسة والمؤسسات المعنية كرابطة العالم الإسلامي وغيرها من المؤسسات الكبرى في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ويصدر بها بلاغ رسمي من منظمة التعاون الإسلامي باعتبارها ثاني أكبر تجمع دولي بعد هيئة الأمم المتحدة، ويكون لهذا البلاغ صفته القانونية الملزمة الذي بموجبه يتم تجريم ومحاكمة كل خطاب ديني متطرف ينزع إلى إثارة علائق الخلاف مع الآخر برؤية دينية.
أشير إلى أن هذا الإجراء لو وجد سابقا لما سمح لنماذج التطرف في بعض العواصم الأوروبية من تأليب العامة وتقديم صور مشوهة عن ديننا وخطاب الاعتدال والتسامح فيه، وحتما فجيلي يذكر نماذج من أولئك كأبي حمزة المصري بذراعه الحديدية، وأبو قتادة، وغيرهم. كما كان سيحد من بروز ملامح الخطاب الطائفي في مجتمعنا المسلم الذي يقوم على إثارة الشحناء بين المسلمين أنفسهم، والذي تظهر ملامحه بين الفينة والأخرى.
والمهم أنه سيعطي فرصة لتعريف العالم بصورة الإسلام المعتدل الذي تمثل في عديد من آيات الذكر الحكيم ومنها سورة الكافرون، والتي تقدم أول صيغة دينية قانونية للتعايش مع غير أهل الكتاب باحترام ضوابط السلوك الحياتي؛ كما يتمثل في وثيقة «صحيفة المدينة» وهي أول عقد اجتماعي بين المسلمين وأهل الكتاب، كتبه وأقره النبي عليه الصلاة والسلام فور هجرته ليثرب؛ والتي أكدها بعد ذلك في صور متعددة في حياته كحال استقباله لوفد نصارى نجران، وفي زواجه بالسيدة مارية القبطية، إلى غير ذلك من الشواهد، والتي جرى تأكيدها من بعده في عهد الخلفاء الراشدين اقتداء والتزاما.
أخيرا، الاعتراف بالظاهرة هو أول طريق المعالجة، التي تقتضي تجريم كل خطاب متشدد يجعل من نفسه موقعا عن رب العالمين، وصدق الله القائل: ﴿ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتمْ فيه تختلفون﴾.
0 تعليق